تعرب جمعية ضحايا التعذيب في الإمارات عن قلقها العميق إزاء استمرار احتجاز الناشط الإماراتي جاسم بن راشد الشامسي في سوريا منذ السادس من نوفمبر الجاري 2025، في ظل مخاوف حقيقية من إمكانية تسليمه إلى سلطات بلاده، المعروفة بانتهاجها سياسة التعذيب المنهجي ضد المعارضين والناشطين السلميين واستخدام نفوذها المالي لجلب المعارضين في المنفى.
وتؤكد الجمعية أن اعتقال الشامسي من دون أمر قضائي أو تهمة واضحة، وانقطاع التواصل معه منذ نقله إلى أحد المراكز الأمنية في العاصمة دمشق، يمثل انتهاكًا صارخًا لحقوقه الأساسية المكفولة بموجب القانون الدولي، ويمثل خيبة أمل كبيرة لدى الشعوب العربية التي استبشرت بانتصار الثورة السورية التي كان الشامسي أحد مؤيديها، كما يثير تساؤلات حول مدى التزامات السلطات السورية الجديدة باتفاقية مناهضة التعذيب التي صادقت عليها سوريا عام 2004م، والتي تُحظر في مادتها الثالثة تسليم أي شخص إلى دولة يُحتمل أن يتعرض فيها للتعذيب أو المعاملة القاسية.
خلفية الاعتقال ومخاوف من الإعادة القسرية
بحسب معطيات حقوقية متطابقة، فقد أوقفت الأجهزة الأمنية السورية الناشط جاسم الشامسي – وهو أحد أبرز المعارضين الإماراتيين – عند حاجز تفتيش في دمشق، واقتادته إلى جهة غير معلومة دون إذن قضائي. ويُعد الشامسي من الشخصيات المعروفة بمواقفها المؤيدة للثورة السورية ومعارضته الشديدة لانتهاكات النظام السابق، ويعيش في منفاه بتركيا منذ سنوات بعد أن ضاقت به بلاده ذرعًا جراء القمع الرهيب وحملات الاعتقال للمفكرين وقادة الرأي والمطالبين بالإصلاحات.
كان الشامسي أحد الكوادر الناجحة في العمل الحكومي في دولة الإمارات، وتميز منذ بداياته بحس إداري وتنظيمي لافت، مبتدئًا مسيرته المهنية في وزارة المالية الإماراتية، حيث تولى عدة مهام فنية وإدارية ضمن الإدارات المختصة بشؤون الميزانية العامة وإدارة الإيرادات والنفقات الحكومية.
ونظرًا لكفاءته الإدارية ومهاراته الفنية في تحليل السياسات المالية، تمت ترقيته تدريجيًا حتى أصبح مساعدًا لوكيل وزارة المالية.
وإلى جانب اختصاصه المهني عُرف الشامسي بثقافته واطلاعه الفكري ودعوته لتوسيع المشاركة المجتمعية وتمكين الكوادر الشابة، وبتحليلاته حول تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط.
ترك العمل الحكومي بعد تبنيه آراء إصلاحية، واتجه للاستشارات والبحث الاقتصادي، ثم غادر الإمارات عام 2011 إثر خلافات فكرية، واستقر في تركيا نحو عقد من الزمن، واصل خلالها نشاطه الفكري والإعلامي بخطاب معتدل يدعو للإصلاح والتنمية السلمية ويؤيد طموحات الشعوب العربية في التحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان.
قبل أشهر توجه الشامسي إلى سوريا برفقة زوجته السورية وأبنائه بعد سقوط نظام بشار الأسد، لكنه اليوم رهن الاعتقال ممنوعًا من الاتصال بالخارج، فيما يُخشى أن تقدم السلطات الجديدة في دمشق على تسليمه إلى دولة الإمارات، في مخالفةٍ صريحة للمادة (3) من اتفاقية مناهضة التعذيب، التي تحظر تسليم أي شخص إلى دولة يُحتمل أن يتعرض فيها للتعذيب.
سجل إماراتي حافل بانتهاكات التعذيب
تتمتع الإمارات بأحد أسوأ السجلات الحقوقية في المنطقة فيما يتعلق بالتعذيب والاحتجاز التعسفي وسوء المعاملة، إذ وثقت تقارير أمنية ومنظمات دولية عديدة، عشرات الحالات لمعتقلين تعرّضوا للتعذيب الجسدي والنفسي في السجون الإماراتية، خصوصًا في القضايا السياسية المعروفة مثل “إمارات 94” و”العدالة والكرامة”.
ولم تكتفِ السلطات الإماراتية بممارسة القمع والترهيب داخل إقليم الدولة، بل تسعى لتعميم تجربتها القمعية خارج حدودها الجغرافية في ممارسة التعذيب، عبر إدارة مراكز احتجاز سرية في دول عربية مثل اليمن، حيث كشفت تقارير موثقة عن عمليات تعذيب مروعة في سجون تقع تحت إشراف قوات موالية لأبو ظبي، تضمنت الضرب المبرح، الصعق الكهربائي، والعزل الانفرادي لفترات طويلة، في انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني.
وفي ليبيا لا تزال الإمارات تقدم كل أشكال الدعم العسكري والسياسي لميليشيات معروفة بسجلها القاتم في انتهاكات حقوق الإنسان مثل قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وهو نفس الأمر الذي ينطبق على قوات الدعم السريع في السودان، التي يقودها محمد حمدان دقلو الملقب بـ حميدتي، والمتهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، آخرها ما وثقته تقارير أممية ومنظمات حقوقية في الفاشر غرب السودان.
لقد تجاوز الدور الإماراتي في المنطقة العربية الممارسات الداخلية إلى نمطٍ ممنهج لتقويض سيادة القانون ودعم الانتهاكات في دول أخرى.
ففي اليمن، كما سبقت الإشارة إليه تموّل الإمارات تشكيلات أمنية تعمل خارج مؤسسات الدولة، ارتكبت جرائم اعتقال وتعذيب بحق المدنيين.
وفي ليبيا والسودان، دعمت أبو ظبي جماعات مسلحة متورطة في انتهاكات جسيمة، بما في ذلك القتل خارج نطاق القانون وتجنيد المرتزقة.
إن هذا التوجه الأمني الذي تتبناه أبو ظبي يعكس “سياسة تصدير القمع”، إذ باتت الإمارات تستخدم أدواتها الاقتصادية والعسكرية لتشكيل بيئة إقليمية قوامها السيطرة الأمنية على حساب حقوق الإنسان، في ظل غياب أي مساءلة داخلية أو دولية حقيقية.
بالتوازي مع ذلك، وثقت تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الإقليمية أن الإمارات استخدمت نفوذها السياسي والاقتصادي لفرض صفقات تسليم معارضين من الخارج، كان آخرها اختطاف وتسليم المعارض الإماراتي خلف الرميثي من الأردن عام 2023، رغم حمله الجنسية التركية، حيث انقطعت أخباره بعد تسليمه إلى أبو ظبي.
محاكمات سياسية وأحكام قاسية
بخصوص الناشط جاسم الشامسي فقد كان أُدرج ضمن قوائم المعارضين في قضية “إمارات 94”، التي حوكم فيها العشرات من الأكاديميين والنشطاء لمجرد مطالبتهم بإصلاحات سياسية سلمية. وصدر بحقه حكمان قاسيان أحدهما بالسجن خمسة عشر عامًا والآخر بالمؤبد، إثر محاكمات وصفها الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي في الأمم المتحدة عام 2013 بأنها “تعسفية وتفتقر إلى أدنى معايير العدالة”، كما أصدر الفريق قرارًا يؤكد الطابع التعسفي للاحتجاز.
إن قضية الناشط جاسم الشامسي تمثل امتدادًا لنمط طويل وممتد من الممارسات القمعية التي تنتهجها السلطات الإماراتية، بما في ذلك الملاحقة خارج الحدود، واستهداف النشطاء في المنفى، واستغلال النفوذ السياسي لإسكات الأصوات المعارضة.
مناشدة الحكومة السورية الجديدة
إننا في جمعية ضحايا التعذيب في الإمارات نناشد السلطات السورية الكشف الفوري عن مصير الناشط جاسم الشامسي، وتمكينه من التواصل مع عائلته، وضمان عدم تسليمه إلى أي جهة قد تعرّضه للتعذيب، وإطلاق سراحه فورًا.
كما نطالب الآليات الحقوقية المعنية في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمفوضية السامية لحقوق الإنسان بمتابعة القضية بشكل عاجل، والتحقق من مدى ضلوع أي أطراف خارجية في عملية اعتقاله أو محاولة تسليمه.
وتوصي الجمعية بضرورة فتح تحقيق دولي مستقل في سجل الإمارات في قضايا التعذيب داخل أراضيها وخارجها، وتفعيل آليات المساءلة الدولية، وتقديم تعويضات للضحايا، مؤكدة أن استمرار الإفلات من العقاب في هذه القضايا يشكل تهديدًا جديًا للنظام الدولي القائم على العدالة وحقوق الإنسان.
وختامًا، تؤكد جمعية ضحايا التعذيب أن قضية الشامسي ليست حدثًا معزولًا، بل مرآة تعكس الطبيعة الممنهجة للانتهاكات الإماراتية داخل حدودها وخارجها، وتحذر من أن أي خطوة لتسليمه إلى بلده قد تُسجَّل كحادثة جديدة في سجل التعاون الأمني الإقليمي الذي يقوّض العدالة وحقوق الإنسان في المنطقة العربية، كما يقوض مصداقية الحكومة السورية الجديدة التي جاءت من رحم الكفاح الطويل ضد كل أشكال المعاناة والظلم، وعليه يجدر بها أن لا تقع في الأفعال نفسها التي ناضلت ضدها.
إن مصير الناشط الإماراتي جاسم الشامسي سيُشكّل اختبارًا حقيقيًا لمدى احترام الحكومة السورية الجديدة لالتزاماتها الدولية، ولقدرة المجتمع الدولي على حماية المعارضين من آلة التعذيب العابرة للحدود التي باتت تمثلها دولة الإمارات العربية المتحدة.


